الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقد احتج بـ [سورة الإخلاص] من أهل الكلام المحدث من يقول: الرب ـ تعالى ـ جسم كبعض الذين وافقوا هشام بن الحكم، ومحمد بن كرام، وغيرهما، ومن ينفي ذلك ويقول: ليس بجسم ممن وافق جهم بن صفوان، وأبا الهذيل العلاف، ونحوهما، فأولئك قالوا: هو صمد والصمد لا جوف له، وهذا إنما يكون في الأجسام المصمتة، فإنها لا جوف لها، كما في الجبال والصخور وما يصنع من عواميد الحجارة، وكما قيل: إن الملائكة صمد؛ ولهذا قيل: إنه لا يخرج منه شيء، ولا يدخل فيه شيء، ولا يأكل ولا يشرب، ونحو ذلك، ونفي هذا لا يعقل إلا عمن هو جسم، وقالوا: أصل [الصمد]: الاجتماع، ومنه تصميد المال، وهذا إنما يعقل في الجسم المجتمع، وأما النفاة فقالوا: [الصمد] الذي لا يجوز عليه التفرق والانقسام، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والانقسام. وقالوا ـ أيضًا ـ [الأحد]: الذي لا يقبل التجزي والانقسام، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والتجزى والانقسام.وقالوا: / إذا قلتم: هو جسم كان مركبًا مؤلفًا من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، وما كان مركبًا مؤلفًا من غيره كان مفتقرًا إليه، وهوـ سبحانه ـ صمد، والصمد الغني عما سواه، فالمركب لا يكون صمدًا. فيقال: أما القول بأنه ـ سبحانه ـ مركب مؤلف من أجزاء، وأنه يقبل التجزي والانقسام والانفصال، فهذا باطل شرعًا وعقلًا؛ فإن هذا ينافي كونه صمدًا ـ كما تقدم ـ وسواء أريد بذلك أنه كانت الأجزاء متفرقة، ثم اجتمعت، أو قيل: إنها لم تزل مجتمعة لكن يمكن انفصال بعضها عن بعض، كما في بدن الإنسان وغيره من الأجسام، فإن الإنسان وإن كان لم يزل مجتمع الأعضاء، لكن يمكن أن يفرق بين بعضه من بعض، واللّه - سبحانه - منزه عن ذلك؛ ولهذا قدمنا أن كمال الصمدية له، فإن هذا إنما يجوز على ما يجوز أن يفنى بعضه أو يعدم، وما قبل العدم والفناء لم يكن واجب الوجود بذاته، ولا قديمًا أزليًا؛ فإن ما وجب قدمه امتنع عدمه، وكذلك صفاته التي لم يزل موصوفًا بها وهي من لوازم ذاته، فيمتنع أن يعدم اللازم إلا مع عدم الملزوم. ولهذا قال من قال من السلف: [الصمد]: هو الدائم، وهو الباقى بعد فناء خلقه، فإن هذا من لوازم الصمدية، إذ لو قبل العدم، لم تكن صمديته لازمة له، بل جاز عدم صمديته فلا يبقى صمدًا، ولا/تنتفي عنه الصمدية إلا بجواز العدم عليه، وذلك محال، فلا يكون مستوجبًا للصمدية، إلا إذا كانت لازمة له، وذلك ينافي عدمه، وهو مستوجب للصمدية، لم يصر صمدًا بعد أن لم يكن - تعالى وتقدس- فإن ذلك يقتضي أنه كان متفرقا فجمع، وأنه مفعول محدث مصنوع، وهذه صفة مخلوقاته.وأما الخالق القديم الذي يمتنع عليه أن يكون معدومًا أو مفعولًا أو محتاجًا إلى غيره بوجه من الوجوه، فلا يجوز عليه شيء من ذلك، فعلم أنه لم يزل صمدًا، ولا يزال صمدًا، فلا يجوز أن يقال: كان متفرقا فاجتمع، ولا أنه يجوز أن يتفرق، بل ولا أن يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء. وهذا مما هو متفق عليه بين طوائف المسلمين ـ سنيهم وبدعيهم ـ وإن كان أحد من الجهال أو من لا يعرف قد يقول خلاف ذلك، فمثل هؤلاء لا تنضبط خيالاتهم الفاسدة، كما أنه ليس في طوائف المسلمين من يقول: إنه مولود ووالد، وإن كان هذا قد قاله بعض الكفار، وقد قال المتفلسفة المنتسبون إلى الإسلام من التولد والتعليل ما هو شر من قول أولئك.وأما إثبات الصفات له، وأنه يُرَى في الآخرة، وأنه يتكلم بالقرآن وغيره، وكلامه غير مخلوق، فهذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين وأهل السنة والجماعة من جميع الطوائف.والخلاف في ذلك مشهور مع الجهمية والمعتزلة، / وكثير من الفلاسفة والباطنية. وهؤلاء يقولون: إن إثبات الصفات يوجب أن يكون جسمًا وليس بجسم.فلا تثبت له الصفات.قالوا: لأن المعقول من الصفات أعراض قائمة بجسم، لا تعقل صفته إلا كذلك.قالوا: والرؤية لا تعقل إلا مع المعاينة، فالمعاينة لا تكون إلا إذا كان المرئي بجهة، ولا يكون بجهة إلا ما كان جسمًا. قالوا: ولأنه لو قام به كلام أو غيره للزم أن يكون جسمًا، فلا يكون الكلام المضاف إليه إلا مخلوقًا منفصلًا عنه. وهذه المعاني مما ناظروا بها الإمام أحمد في المحنة، وكان ممن احتج على أن القرآن مخلوق بنفي التجسيم أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث ـ تلميذ حسين النجار ـ وهو من أكابر المتكلمين، فإن ابن أبي دؤاد كان قد جمع للإمام أحمد من أمكنه من متكلمى البصرة وبغداد وغيرهم ممن يقول: إن القرآن مخلوق، وهذا القول لم يكن مختصًا بالمعتزلة كما يظنه بعض الناس، فإن كثيرًا من أولئك المتكلمين ـ أو أكثرهم ـ لم يكونوا معتزلة، وبشر المْرِيسي لم يكن من المعتزلة، بل فيهم نجارية، ومنهم برغوث، وفيهم ضرارية، وحفص الفرد الذي ناظر الشافعي كان من الضرارية أتباع ضرار بن عمرو، وفيهم مرجئة، ومنهم بشر المريسي، ومنهم جهمية محضة، ومنهم معتزلة، وابن أبي/دُؤَاد لم يكن معتزليًا، بل كان جهميا ينفي الصفات، والمعتزلة تنفي الصفات، فنفاة الصفات الجهمية أعم من المعتزلة، فلما احتج عليه برغوث بأنه لو كان يتكلم ويقوم به الكلام لكان جسما، وهذا منفي عنه، وأحمد وأمثاله من السلف كانوا يعلمون أن هذه الألفاظ التي ابتدعها المتكلمون كلفظ الجسم وغيره ينفيها قوم ليتوصلوا بنفيها إلى نفي ما أثبته اللّه ـ تعالى ـ ورسوله، ويثبتها قوم ليتوصلوا بإثباتها إلى إثبات مانفاه اللّه ورسوله. فالأولى: طريقة الجهمية ـ من المعتزلة وغيرهم ـ ينفون الجسم حتى يتوهم المسلمون أن قصدهم التنزيه، ومقصودهم بذلك أن اللّه لا يرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن ولا غيره، بل خلق كلامًا في غيره، وأنه ليس له علم يقوم به، ولا قدرة ولا حياة، ولا غير ذلك من الصفات. قال الإمام أحمد في خطبته في الرد على الجهمية والزنادقة: الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب اللّه الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب اللّه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، / فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجتمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على اللّه، وفي اللّه، وفي كتاب اللّه بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ باللّه من فتن المضلين. والثانية: طريقة هشام وأتباعه، يحكى عنهم أنهم أثبتوا ما قد نزه اللّه نفسه عنه من اتصافه بالنقائص، ومماثلته للمخلوقات، فأجابهم الإمام أحمد بطريقة الأنبياء وأتباعهم وهو الاعتصام بحبل اللّه الذي قال اللّه فيه: وقال تعالى: فهذه النصوص وغيرها تبين أن اللّه أرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيان الحق من الباطل، وبيان ما اختلف فيه الناس، وأن الواجب على الناس اتباع ما أنزل إليهم من ربهم، ورد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة، وأن من لم يتبع ذلك كان منافقًا، وأن من اتبع الهدى الذي جاءت به الرسل فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذلك حشر أعمى ضالًا شقيًا معذبًا، وأن الذين فرقوا دينهم قد برئ اللّه ورسوله منهم. فاتبع الإمام أحمد طريقة سلفه من أئمة السنة والجماعة المعتصمين/بالكتاب والسنة، المتبعين ما أنزل اللّه إليهم من ربهم، وذلك أن ننظر فما وجدنا الرب قد أثبته لنفسه في كتابه أثبتناه، وما وجدناه قد نفاه عن نفسه نفيناه، وكل لفظ وجد في الكتاب والسنة بالإثبات أثبت ذلك اللفظ، وكل لفظ وجد منفيًا نفي ذلك اللفظ، وأما الألفاظ التي لا توجد في الكتاب والسنة، بل ولا في كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين لا إثباتها ولا نفيها. وقد تنازع فيها الناس، فهذه الألفاظ لا تثبت ولا تنفي إلا بعد الاستفسار عن معانيها، فإن وجدت معانيها مما أثبته الرب لنفسه أثبتت، وإن وجدت مما نفاه الرب عن نفسه نفيت، وإن وجدنا اللفظ أثبت به حق وباطل، أو نفي به حق وباطل، أو كان مجملًا يراد به حق وباطل، وصاحبه أراد به بعضها، لكنه عند الإطلاق يوهم الناس أو يفهمهم ما أراد وغير ما أراد ـ فهذه الألفاظ لا يطلق إثباتها ولا نفيها، كلفظ الجوهر والجسم والتحيز والجهة، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل في هذا المعنى، فقل من تكلم بها نفيًا أو إثباتًا إلا وأدخل فيها باطلًا، وإن أراد بها حقًا. والسلف والأئمة كرهوا هذا الكلام المحدث؛ لاشتماله على باطل وكذب، وقولُ عَلَى اللّه بلا علم.وكذلك ذكر أحمد في رده على الجهمية أنهم يفترون على اللّه فيما ينفونه عنه، ويقولون عليه بغير علم، وكل/ ذلك مما حَرَّمَهُ اللّه ورسوله، ولم يكره السلف هذه لمجرد كونها اصطلاحية، ولا كرهوا الاستدلال بدليل صحيح جاء به الرسول، بل كرهوا الأقوال الباطلة المخالفة للكتاب والسنة، ولا يخالف الكتاب والسنة إلا ما هو باطل، لا يصح بعقل ولا سمع. ولهذا لما سئل أبو العباس ابن سريج عن التوحيد فذكر توحيد المسلمين وقال: وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض، وإنما بعث اللّه النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك، ولم يرد بذلك أنه أنكر هذين اللفظين؛ فإنهما لم يكونا قد أحدثا في زمنه، وإنما أراد إنكار ما يعني بهما من المعاني الباطلة، فإن أول من أحدثهما الجهمية والمعتزلة، وقصدهم بذلك إنكار صفات اللّه ـ تعالى ـ أو أن يرى، أو أن يكون له كلام يتصف به، وأنكرت الجهمية أسماءه أيضًا. وأول من عرف عنه إنكار ذلك الجعْدُ بن درهم، فضحى به خالد بن عبد اللّه القَسْرى بواسط. وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى اللّه عما يقول الجعد علوًا كبيرًا. ثم نزل فذبحه. وكلام السلف والأئمة في ذم هذا الكلام وأهله مبسوط في غير هذا الموضع. /والمقصود هنا أن أئمة السنة ـ كأحمد بن حنبل وغيره ـ كانوا إذا ذكرت لهم أهل البدع الألفاظ المجملة، كلفظ الجسم والجوهر والحيز ونحوها، لم يوافقوهم لا على إطلاق الإثبات، ولا على إطلاق النفي. وأهل البدع بالعكس ابتدعوا ألفاظًا ومعاني، إما في النفي، وإما في الإثبات، وجعلوها هي الأصل المعقول المحكم، الذي يجب اعتقاده، والبناء عليه، ثم نظروا في الكتاب والسنة، فما أمكنهم أن يتأولوه على قولهم تأولوه، وإلا قالوا: هذا من الألفاظ المتشابهة المشكلة التي لا ندري ما أريد بها، فجعلوا بدعهم أصلًا محكمًا، وما جاء به الرسول فرعًا له ومشكلًا، إذا لم يوافقه.وهذا أصل الجهمية والقدرية وأمثالهم، وأصل الملاحدة من الفلاسفة الباطنية، جميع كتبهم توجد على هذا الطريق، ومعرفة الفرق بين هذا وهذا من أعظم ما يعلم به الفرق بين الصراط المستقيم الذي بعث اللّه به رسوله، وبين السبل المخالفة له، وكذلك الحكم في المسائل العلمية الفقهية، ومسائل أعمال القلوب وحقائقها وغير ذلك.كل هذه الأمور قد دخل فيها ألفاظ ومعان محدثة، وألفاظ ومعان مشتركة. فالواجب أن يجعل ما أنزله اللّه من الكتاب والحكمة أصلًا في جميع هذه الأمور، ثم يرد ما تكلم فيه الناس إلى ذلك، ويبين مافي الألفاظ المجملة من المعاني الموافقة للكتاب والسنة فتقبل، وما فيها من المعاني /المخالفة للكتاب والسنة فترد. ولهـذا كـل طائفـة أنكر عليها مـا ابتـدعت احتـجت بما ابتدعتـه الأخرى، كما يوجد في ألفاظ أهـل الرأي والكـلام والتصـوف، وإنما يجـوز أن يقال في بعـض الآيـات: إنـه مشكل ومتشابـه إذا ظـن أنه يخالف غيره من الآيات المحكمة البينة، فإذا جاءت نصوص بينة محكمـة بأمر، وجـاء نص آخر يظـن أن ظاهـره يخالف ذلك يقـال في هـذا: إنـه يرد المتشابـه إلى المحكم، أما إذا نطق الكتاب أو السنة بمعنى واحد لم يجز أن يجعل ما يضاد ذلك المعنى هو الأصل، ويجعل ما في القرآن والسنة مشكلًا متشابهًا، فلا يقبل ما دل عليه. نعم قد يشكل على كثير من الناس نصوص لا يفهمونها، فتكون مشكلة بالنسبة إليهم لعجز فهمهم عن معانيها، ولا يجوز أن يكون في القرآن ما يخالف صريح العقل والحس إلا وفي القرآن بيان معناه، فإن القرآن جعله اللّه شفاءً لما في الصدور، وبيانًا للناس، فلا يجوز أن يكون بخلاف ذلك؛ لكن قد تخفي آثار الرسالة في بعض الأمكنة والأزمنة، حتى لا يعرفون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.إما ألا يعرفوا اللفظ، وإما أن يعرفوا اللفظ ولا يعرفوا معناه، فحينئذ يصيرون في جاهلية بسبب عدم نور النبوة، ومن ههنا يقع الشرك، وتفريق الدين شيعًا، كالفتن التي تحدث السيف، فالفتن القولية والعملية/ هي من الجاهلية بسبب خفاء نور النبوة عنهم، كما قال مالك بن أنس: إذا قَلَّ العِلْمُ ظهر الجفَاَءُ، وإذا قلت الآثار ظهرت الأهواء. ولهذا شبهت الفتن بقطع الليل المظلم؛ ولهذا قال أحمد في خطبته: الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فترة بقايا من أهل العلم.فالهدى الحاصل لأهل الأرض إنما هو من نور النبوة كما قال تعالى فهؤلاء في ضلال وجهل وشرك وشر، لكن اللّه يقول: /وقد زعم بعضهم أن هذا يخالف دين المسلمين؛ فإن الآخرة لا تكليف فيها، وليس كما قال، إنما ينقطع التكليف إذا دخلوا دار الجزاء ـ الجنة أو النار ـ وإلا فهم في قبورهم ممتحنون ومفتونون، يقال لأحدهم: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وكذلك في عرصات القيامة يقال: ليتبع كل قوم ماكانوا يعبدون، فيتبع من كان يعبد الشمسَ الشمسَ، ومن كان يعبد القمرَ القمرَ، ومن كان يعبد الطواغيتَ الطواغيتَ، وتبقي هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم اللّه في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة، ويقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ باللّه منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا.وفي رواية: فيسألهم ويثبتهم، وذلك امتحان لهم، هل يتبعون غير الرب الذي عرفوا أنه اللّه الذي تجلى لهم أول مرة؟ فيثبتهم اللّه ـ تعالى ـ عند هذه المحنة، كما يثبتهم في فتنة القبر، فإذا لم يتبعوه لكونه أتى في غير الصورة التي يعرفون، أتاهم حينئذ في الصورة التي يعرفون فيكشف عن ساق، فإذا رأوه خروا له سجدًا، إلا من كان منافقًا، فإنه يريد السجود فلا يستطيعه، يبقى ظهره مثل الطبق.وهذا المعنى مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث ثابتة من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وقد أخرجاهما في الصحيحين، ومن حديث جابر.وقد رواه مسلم من حديث ابن مسعود، وأبي موسى، وهو معروف من رواية أحمد وغيره، فدل/ذلك على أن المحنة إنما تنقطع إذا دخلوا دار الجزاء، وأما قبل دار الجزاء امتحان وابتلاء. فإذا انقطع عن الناس نور النبوة وقعوا في ظلمة الفتن، وحدثت البدع والفجور، ووقع الشر بينهم، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين، ومنعني الثالثة، سألته ألا يهلك أمتى بسنة عامة فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها). والبأس مشتق من البؤس، قال اللّه تعالى: ولهذا قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو فرج/ أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية. وقد روى مالك بإسناده الثابت عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أنها كانت تقول: ترك الناس العمل بهذه الآية ـ تعني قوله تعالى ـ: وهكذا مسائل النزاع التي تنازع فيها الأمة في الأصول والفروع إذا لم ترد إلى اللّه والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم اللّه أقر بعضهم بعضًا، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد فيقر بعضهم بعضًا، ولا يعتدى عليه، وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله.وهذه حال أهل البدع والظلم كالخوارج وأمثالهم، يظلمون الأمة ويعتدون عليهم، إذا نازعوهم في بعض مسائل الدين، وكذلك سائر أهل الأهواء، فإنهم يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم فيها، كما تفعل الرافضة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، والذين امتحنوا الناس بخلق القرآن كانوا من هؤلاء؛ ابتدعوا بدعة وكفروا من خالفهم فيها، /واستحلوا منع حقه وعقوبته. فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث اللّه به الرسول صلى الله عليه وسلم، إما عادلون، وإما ظالمون. فالعادل فيهم الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره، والظالم الذي يعتدى على غيره، وهؤلاء ظالمون مع علمهم بأنهم يظلمون، كما قال تعالى: وكان الذين امتحنوا أحمد وغيره من هؤلاء الجاهلين، فابتدعوا كلامًا متشابهًا نفوا به الحق، فأجابهم أحمد لما ناظروه في المحنة، وذكروا الجسم ونحو ذلك، وأجابهم بإني أقول كما قال اللّه تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ}، وأما لفظ الجسم فلفظ مبتدع محدث، ليس على أحد أن يتكلم به ألبتة، والمعنى الذي يراد به مجمل، ولم تبينوا مرادكم حتى نوافقكم على المعنى الصحيح، فقال: ما أدرى ما تقولون؟ / لكن أقول: يقول: ما أدري ما تعنون بلفظ الجسم، فأنا لا أوافقكم على إثبات لفظ ونفيه، إذ لم يرد الكتاب والسنة بإثباته ولا نفيه، إن لم نَدْرِ معناه الذي عناه المتكلم، فإن عني في النفي والإثبات ما يوافق الكتاب والسنة وافقناه، وإن عني ما يخالف الكتاب والسنة في النفي والإثبات لم نوافقه. ولفظ [الجسـم] و[الجوهر] ونحـوهما لم يأت في كتاب اللّه ولا سـنة رسـولـه، ولا كلام أحد ـ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسائر أئمة المسلمين ـ التكلم بها في حق اللّه ـ تعالى ـ لا بنفي ولا إثبات؛ ولهذا قال أحمد في رسالته إلى المتوكل: لا أحب الكلام في شيء من ذلك إلا ما كان في كتاب اللّه، أو في حديث عن رسول صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة أو التابعين لهم بإحسان، وأما غير ذلك، فإن الكلام فيه غير محمود. وذكر ـ أيضًا ـ فيما حكاه عن الجهمية أنهم يقولون: ليس فيه كذا ولا كذا ولا كذا، وهو كما قال، فإن لفظ الجسم له في اللغة التي نزل بها القرآن معنى، كما قال تعالى: تَجَسَّمْتُهُ من بينهن بمرهف ** وتَجَسَّمْتُ الأرضَ: إذا أخـذت نحـوها تُريدُها، وتَجَسَّمَ مـن الجسم. وقال ابن السكيت: تَجَسَّمْتُ الأمر، أي: ركبت أجسمه وجسيمه، أي معظمه، قال: وكذلك تَجَسَّمْتُ الرَّمْلَ والجَبَلَ، أي: ركبت أعظمه، والأجْسَمُ: الأضخم. قال عامر بن الطفيل: /لقد علم الحىُّ من عامرٍ ** بــأن لنا الــذِّرْوَةَ الأجْسَما فهذا الجسم في لغة العرب، وعلى هذا فلا يقال للهواء: جسم، ولا للنَّفَسِ الخارج من الإنسان: جسم، ولا لروحه المنفوخة فيه: جسم. ومعلوم أن اللّه ـ سبحانه ـ لا يماثل شيئًا من ذلك، لا بدن الإنسان ولا غيره، فلا يوصف اللّه ـ تعالى ـ بشيء من خصائص المخلوقين، ولا يطلق عليه من الأسماء ما يختص بصفات المخلوقين، فلا يجوز أن يقال: هو جسم، ولا جسد. وأمـا أهـل الكـلام، فالجسـم عندهم أعم من هذا، وهم مختلفون في معناه اختلافا كثيرًا عقليًا، واختــلافًا لفظيًا اصطـلاحيًا.فهم يقـولون: كـل مــا يشار إليه إشارة حسية فهو جسم، ثم اختلفوا بعد هذا، فقال كثير منهم: كل ما كان كذلك فهو مركب من الجواهر الفردة، ثم منهم من قال: الجسم أقل ما يكون جوهرًا، بشرط أن ينضم إلى غيره. وقيل: بل الجوهران، والجواهر فصاعدًا. وقيل: بل أربعة فصاعدًا.وقيل: بل ستة.وقيل: بل ثمانية. وقيل: بل ستة عشر.وقيل: بل اثنان وثلاثون، وهذا قول من يقول: إن الأجسام كلها مركبة من الجواهر التي لا تنقسم. وقال آخرون من أهل الفلسفة: كل الأجسام مركبة من الهيولى/والصورة، لا من الجواهر الفردة. وقال كثير من أهل الكلام وغير أهل الكلام: ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا، ولا من هذا ولا من هذا، وهذا قول الهشامية والكُلابية والضرارية وغيرهم من الطوائف الكبار، لا يقولون بالجوهر الفرد ولا بالمادة والصورة، وآخرون يدعون إجماع المسلمين على إثبات الجوهر الفرد، كما قال أبو المعالى وغيره: اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تجزئها وانقسامها حتى تصير أفرادًا، ومع هذا، فقد شك هو فيه، وكذلك شك فيه أبو الحسين البصري. وأبو عبد اللّه الرازي. ومعلوم أن هذا القول لم يقله أحد من أئمة المسلمين ـ لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ـ ولا أحد من أئمة العلم المشهورين بين المسلمين، وأول من قال ذلك في الإسلام طائفة من الجهمية والمعتزلة، وهذا من الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، ولكن حاكى هذا الإجماع لما لم يعرف أصول الدين إلا ما في كتب الكلام، ولم يجد إلا من يقول بذلك، اعتقد هذا إجماع المسلمين، والقول بالجوهر الفرد باطل، والقول بالهيولى والصورة باطل، وقد بسط الكلام على هذه المقالات في مواضع أخر. /وقال آخرون: الجسم هو القائم بنفسه، وكل قائم بنفسه جسم، وكل جسم فهو قائم بنفسه، وهو مشار إليه، واختلفوا في الأجسام: هل هي متماثلة أم لا؟ على قولين مشهورين. وإذا عرف ذلك، فمن قال: إنه جسم ـ وأراد أنه مركب من الأجزاء ـ فهذا قوله باطل، وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات، فقد علم بالشرع والعقل أن اللّه ليس كمثله شيء في شيء من صفاته، فمن أثبت للّه مثلًا في شيء من صفاته فهو مبطل، ومن قال: إنه جسم بهذا المعنى، فهو مبطل، ومن قال: إنه ليس بجسم ـ بمعنى أنه لا يرى في الآخرة، ولا يتكلم بالقرآن وغيره من الكلام، ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرهما من الصفات، ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء، ولا عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه، ولا يصعد إليه الكلم الطيب، ولا تعرج الملائكة والروح إليه ـ فهذا قوله باطل. وكذلك كل من نفي ما أثبته اللّه ورسوله، وقال: إن هذا تجسيم فنفيه باطل، وتسمية ذلك تجسيمًا تلبيس منه، فإنه إن أراد أن هذا في اللغة يسمى جسمًا، فقد أبطل، وإن أراد أن هذا يقتضي أن يكون جسمًا مركبًا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة، أو أن هذا يقتضي أن يكون جسمًا، والأجسام متماثلة، قيل له: أكثر العقلاء يخالفونك في تماثل الأجسام المخلوقة، وفي أنها مركبة، فلا يقولون: إن الهواء مثل الماء/ ولا أبدان الحيوان مثل الحديد والجبال، فكيف يوافقونك على أن الرب ـ تعالى ـ يكون مماثلًا لخلقه، إذا أثبتوا له ما أثبت له الكتاب والسنة؟ ! واللّه ـ تعالى ـ قد نفي المماثلات في بعض المخلوقات، وكلاهما جسم كقوله: ونكتة الأمر: أن الجسم في اعتقاد هذا النافي يستلزم مماثلة سائر الأجسام، ويستلزم أن يكون مركبًا من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، وأكثر العقلاء يخالفونه في هذا التلازم، وهذا التلازم منتف باتفاق الفريقين، وهو المطلوب. فإذا اتفقوا على انتفاء النقص المنفي عن اللّه شرعًا وعقلًا؛ بقي بحثهم في الجسم الاصطلاحى: هل هو مستلزم لهذا المحذور؟ وهو بحث عقلى، كبحث الناس في الأعراض: هل تبقي أو لا تبقي؟ وهذا البحث العقلى لم يرتبط به دين المسلمين، بل لم ينطق كتاب ولا سنة ولا أثر من السلف بلفظ الجسم في حق اللّه ـ تعالى ـ لا نفيًا ولا إثباتًا، فليس لأحد أن يبتدع اسمًا مجملًا يحتمل معاني مختلفة، لم ينطق به الشرع ويعلق به دين المسلمين، ولو كان قد نطق باللغة العربية، فكيف إذا /أحدث للفظ معنى آخر؟ ! والمعنى الذي يقصده إذا كان حقًا عبر عنه بالعبارة التي لا لبس فيها، فإذا كان معتقده أن الأجسام متماثلة، وأن اللّه ليس كمثله شيء، وهو ـ سبحانه ـ لا سمى له، ولا كُفْو له، ولا ند له، فهذه عبارات القرآن تؤدى هذا المعنى بلا تلبيس ولا نزاع، وإن كان معتقده أن الأجسام غير متماثلة، وأن كل ما يرى وتقوم به الصفات فهو جسم، فإن عليه أن يثبت ما أثبته اللّه ورسوله من علمه وقدرته وسائر صفاته، كقوله: فهذه عبارات الكتاب والسنة عن هذا المعنى الصحيح بلا تلبيس ولا نزاع بين أهل السـنة ـ المتبعين للكتاب والسنة وأقوال الصحابة ـ ثم بعد هذا من كان قد تبين له معنى من جهة العقل أنه لازم للحق لم يدفعه عن عقله، فلازم الحق حق، لكن ذلك المعنى لابد أن يدل /الشرع عليه فيبينه بالألفاظ الشرعية، وإن قُدِّرَ أن الشرع لم يدل عليه لم يكن مما يجب على الناس اعتقاده، وحينئذ فليس لأحد أن يدعو الناس إليه، وإن قدر أنه في نفسه حق.
|